بعد السيطرة السريعة لمسلّحي تنظيم "داعش" الإرهابي على مساحات واسعة من العراق، لا سيّما في وسط وشمال البلاد حيث يَنتمي السُكّان إلى المذهب السنّي، تركّزت الأنظار على العاصمة العراقية بغداد في ظلّ إشاعات كثيرة عن قرب الهجوم عليها. فهل يُمكن لمسلّحي "دولة الإسلام في العراق والشام" تحقيق هذا الهدف؟
البداية مع عوامل القوّة التي تجعل هذا الإحتمال ممكناً، وأبرزها:
أوّلاً: لا ينقص تنظيم "داعش" التمويل اللازم لشراء الأسلحة ولتجنيد المُقاتلين لشنّ هجوم منسّق وواسع، حيث أنّه يؤمّن التمويل المالي من تهريب وبيع مشتقّات نفطيّة يُسيطر على آبار إستخراجها في شمال كل من العراق وسوريا، ومن فرض الخوّات على التجّار ورجال الأعمال، ومن بيع المخدرات وطلب الفدية للإفراج عن أي مخطوف أو رهينة لديه. والتنظيم الذي يتلقّى مساعدات مالية دوريّة من متموّلين عرب متشدّدين دينياً، سَيطر أخيراً على عدد كبير من المصارف في العراق، ونهب أموال المُودعين فيها. وهو يقوم أيضاً برفض تشغيل مَعامل توليد الطاقة الحرارية في المناطق التي يُسيطر عليها، ما لم يحصل مُسبقاً على بدائل مالية من السلطات المعنيّة.
ثانياً: لا ينقص التنظيم الإرهابي الدعم الشعبي أو "البيئة الحاضنة" في المناطق ذات الأغلبية السنّية، ومنها بغداد، حيث توجد نقمة كبيرة على رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي الذي إعتمد وعلى مدى سنوات سياسة تهميش وتمييز قاسية ضدّ السنّة. وقد إلتقت مصالح العديد من زعماء القبائل والعشائر السنّية، مع مصالح ضبّاط وجنود الجيش العراقي المُنحل، ومع مصالح أعضاء حزب البعث المحظور، وكذلك مع مصالح كل الفصائل المسلّحة المُتمرّدة على السلطة، لمحاولة فرض السيطرة على المحافظات السنّية في العراق والتي يبلغ عددها ثماني محافظات في مقابل تسع محافظات شيعيّة.
ثالثاً: يُعوّل مسلّحو "داعش" على سقوط المناطق المحاذية والقريبة من العاصمة، والتي تُطلق عليها تسمية "حزام بغداد"، في بداية أيّ هُجوم محتمل وبشكل تدريجي، خاصة وأنّها لا تحظى بحماية أمنيّة كبيرة كما هي الحال داخل العاصمة العراقية، الأمر الذي سيُشكّل ضربة معنويّة كبيرة للمدافعين عن بغداد، وفرصة لبدء تحرّك "الخلايا الإسلامية المتشدّدة" التي لا تزال نائمة داخلها وفي ضواحيها أيضاً.
بالإنتقال إلى عوامل الضعف التي تجعل إحتمال سيطرة "داعش" على بغداد غير ممكنة، فأبرزها:
أوّلاً: وجود أعداد كبيرة من الوحدات العسكرية العراقية داخل العاصمة أصلاً، وقد جرى تعزيزها أخيراً بوحدات إضافية بعد إنسحاب الكثير من الوحدات من مناطق إنتشارها السابقة قُبيل إنطلاق هجمات مسلّحي تنظيم "داعش". كما توجد ميليشيات مسلّحة من قوى ما يُسمّى "الدفاع المدني" تحمي طريق بغداد-سامراء وبعض الطرقات والمناطق الأخرى المهمّة، ويجري تعزيزها حالياً بمتطوّعين جُدّد. كما توجد وحدات مسلّحة أجنبيّة ولا سيّما منها أميركية، وكذلك وحدات قتالية تابعة لشركات حماية خاصة توظّف مقاتلين متمرّسين سابقين، ومهمّتها حماية سفارات ومصالح الدول الغربيّة كافة. وهي بأغلبيّتها مرتبطة لوجستياً بحماية بحريّة وجويّة عبر القطع العسكرية المنتشرة في مياه الخليج. وتقوم وحدات عراقية مقاتلة منذ أيّام عدّة حتى اليوم، بعمليّات دهم واسعة داخل العاصمة بحثاً عن "خلايا نائمة".
ثانياً: لا يزال مُسلّحو "داعش" على بعد نحو 60 كيلومتراً من العاصمة، وتقدّمهم إليها يجب أن يتم عبر طرقات ومسارات مكشوفة لسلاح الطيران، الأمر الذي قد يُعرّض قوافلهم العسكرية للتدمير عبر طائرات تابعة للولايات المتحدة الأميركية أو ربما لإيران أو حتى للجيش العراقي نفسه. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ السلطات الإيرانية قامت أخيراً بإعادة 130 طائرة حربيّة كان قد جرى تهريبها من العراق إلى إيران خلال المواجهات مع "قوّات الحلفاء" وما سبقها وتلاها من "حظر جوّي"، على أن يتمّ إستخدامها في أيّ مُواجهة مُقبلة مع مسلّحي "داعش"، حيث يتمّ حالياً العمل على صيانتها وتزويدها بالصواريخ المناسبة.
ثالثاً: وجود قرار أميركي-أوروبي بمنع سقوط بغداد بأيدي مسلّحي "داعش"، بموازاة وجود قرار إيراني مشابه، مع ترك كل الخيارات العسكرية مفتوحة لتحقيق هذا الهدف، إن عبر الضربات الصاروخية من البحر والجوّ بالنسبة إلى الأميركيّين، أو عبر تدخّل عسكري مباشر من قبل الإيرانيّين.
في الخلاصة، مَمنوع سقوط العاصمة العراقية، بقرار أميركي-غربي من جهة، وبقرار إيراني من جهة أخرى. وإذا كان صحيحاً أنّ الوضع العراقي مفتوح على تغييرات جذريّة كبيرة، إن سياسية أو عسكريّة، مع إرتفاع إحتمال أن تفرض الأحداث الأخيرة واقع التقسيم العرقي والمذهبي والديمغرافي في العراق، فالأصحّ أنّ السماح لتنظيم "داعش" الإرهابي بالسيطرة على بغداد لا يُمكن أن يكون وارداً أو قابلاً للهضم، كونه في حال حصوله يُشكّل خسارة قاتلة متعدّدة الأطراف.